سورة الأنعام - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا دليل آخر في بيان أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله ولياً، وتقريره أن الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها. والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما. والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو في الخير لأن زوال الضر خير سواء حصل فيه اللذة أو لم تحصل. وإذا ثبت هذا الحصر فقد بيّن الله تعالى أن المضار قليلها وكثيرها لا يندفع إلا بالله، والخيرات لا يحصل قليلها وكثيرها إلا بالله. والدليل على أن الأمر كذلك، أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته أما الواجب لذاته فواحد فيكون كل ما سواه ممكناً لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به، وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به، فثبت بهذا البرهان العقلي البين صحة ما دلّت الآية عليه.
فإن قيل: قد نرى أن الإنسان يدفع المضار عن نفسه بماله وبأعوانه وأنصاره، وقد يحصل الخير له بكسب نفسه وبإعانة غيره، وذلك يقدح في عموم الآية. وأيضاً فرأس المضار هو الكفر فوجب أن يقال إنه لم يندفع إلا بإعانة الله تعالى. ورأس الخيرات هو الإيمان، فوجب أن يقال أنه لم يحصل إلا بإيجاد الله تعالى، ولو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يستحق الإنسان بفعل الكفر عقاباً ولا بفعل الإيمان ثواباً. وأيضاً فإنا نرى أن الإنسان ينتفع بأكل الدواء ويتضرر بتناول السموم، وكل ذلك يقدح في ظاهر الآية.
والجواب عن الأول: أن كل فعل يصدر عن الإنسان فإنما يصدر عنه إذا دعاه الداعي إليه لأن الفعل بدون الداعي محال، وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى. وعلى هذا التقدير فيكون الكل من الله تعالى وهكذا القول في كل ما ذكرتموه من السؤالات.
المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر إمساس الضر وإمساس الخير، إلا أنه ميّز الأول عن الثاني بوجيهين: الأول: أنه تعالى قدم ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير، وذلك تنبيه على أن جميع المضار لابد وأن يحصل عقبيها الخير والسلامة.
والثاني: أنه قال في إمساس الضر {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} وذكر في إمساس الخير {فَهُوَ على كُلّ شَيء قَدُيرٌ} فذكر في الخير كونه قادراً على جميع الأشياء وذلك يدل على أن إرادة الله تعالى لايصال الخيرات غالبة على إرادته لايصال المضار. وهذه الشبهات بأسرها دالة على أن إرادة الله تعالى جانب الرحمة غالب، كما قال: (سبقت رحمتي غضبي).


{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن صفات الكمال محصورة في القدرة والعلم فإن قالوا: كيف أهملتم وجوب الوجود.
قلنا: ذلك عين الذات لا صفة قائمة بالذات لأن الصفة القائمة بالذات مفتقرة إلى الذات والمفتقر إلى الذات مفتقر إلى الغير فيكون ممكناً لذاته واجباً بغيره فيلزم حصول وجوب قبل الوجوب وذلك محال فثبت أنه عين الذات، وثبت أن الصفات التي هي الكمالات حقيقتها هي القدرة والعلم فقوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: {وَهُوَ الحكيم الخبير} إشارة إلى كمال العلم. وقوله: {وَهُوَ القاهر} يفيد الحصر ومعناه أنه لا موصوف بكمال القدرة وكمال العلم إلا الحق سبحانه وعند هذا يظهر أنه لا كامل إلا هو، وكل من سواه فهو ناقص.
إذا عرفت هذا فنقول: أما دلالة كونه قاهراً على القدرة فلأنا بينا أن ما عدا الحق سبحانه ممكن بالوجود لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه وتكوينه وإيجاده وإبداعه فيكون في الحقيقة هو الذي قهر الممكنات تارة في طرف ترجيح الوجود على العدم، وتارة في طرف ترجيح العدم على الوجود ويدخل في هذا الباب كونه قاهراً لهم بالموت والفقر والاذلال ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله: {قُلِ اللهم مالك الملك} [آل عمران: 26] إلى آخر الآية.
وأما كونه حكيماً، فلا يمكن حمله هاهنا على العلم لأن الخبير إشارة إلى العلم فيلزم التكرار أنه لا يجوز، فوجب حمله على كونه محكماً في أفعاله بمعنى أن أفعاله تكون محكمة متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد والخبير هو العالم بالشيء المروي.
قال الواحدي: وتأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به قال: والخبر علمك بالشيء تقول: لي به خبر أي علم وأصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم.
المسألة الثانية: المشبهة استدلوا بهذه الآية على أنه تعالى موجود في الجهة التي هي فوق العالم وهو مردود ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه لو كان موجوداً فوق العالم لكان إما أن يكون في الصغر بحيث لا يتميز جانب منه من جانب وإما أن يكون ذاهباً في الأقطار متمدداً في الجهات. والأول: يقتضي أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد فلو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون إله العالم بعض الذرات المخلوطة بالهبات الواقعة في كوة البيت وذلك لا يقوله عاقل، وإن كان الثاني كان متبعضاً متجزئاً، وذلك على الله محال.
والثاني: أنه إما أن يكون غير متناه من كل الجوانب فيلزم كونه ذاته مخالطاً للقاذورات وهو باطل أو يكون متناهياً من كل الجهات وحينئذ يصح عليه الزيادة والنقصان. وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بمقداره المعين لتخصيص مخصص، فيكون محدثاً أو يكون متناهياً من بعض الجوانب دون البعض، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهياً غير الجانب الموصوف بكونه غير متناه وذلك يوجب القسمة والتجزئة.
والثالث: إما أن يفسر المكان بالسطح الحاوي أو بالبعد والخلاء. فإن كان الأول: فنقول أجسام العالم متناهية فخارج العالم لا خلا ولا ملا ولا مكان ولا حيث ولا جهة، فيمتنع حصول ذات الله تعالى فيه. وإن كان الثاني فنقول الخلاء متساوي الأجزاء في حقيقته وإذا كان كذلك، فلو صحّ حصول الله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء لصح حصوله في سائر الأجزاء، ولو كان كذلك لكان حصوله فيه بتخصيص مخصص، وكل ما كان واقعاً بالفاعل المختار فهو محدث، فحصول ذاته في الجزء محدث. وذاته لا تنفك عن ذلك الحصول وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، فيلزم كون ذاته محدثة وهو محال.
والرابع أن البعد والخلاء أمر قابل للقسمة والتجزئة، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ومفتقر إلى الموجد ويكون موجده موجوداً قبله فيكون ذات الله تعالى قد كانت موجودة قبل وجود الخلاء والجهة والحيث والحيز.
وإذا ثبت هذا: فبعد الحيز والجهة والخلاء وجب أن تبقى ذات الله تعالى كما كانت وإلا فقد وقع التغيير في ذات الله تعالى وذلك محال.
وإذا ثبت هذا وجب القول بكونه منزهاً عن الأحياز والجهات في جميع الأوقات.
والخامس: أنه ثبت أن العالم كرة.
وإذا ثبت هذا فالذي يكون فوق رؤوس أهل الري يكون تحت أقدام قوم آخرين.
وإذا ثبت هذا، فإما أن يقال: إنه تعالى فوق أقوام بأعيانهم. أو يقال: إنه تعالى فوق الكل. والأول: باطل، لأن كونه فوقاً لبعضهم يوجب كونه تحتاً لآخرين، وذلك باطل.
والثاني: يوجب كونه تعالى محيطاً بكرة الفلك فيصير حاصل الأمر إلى أن إله العالم هو فلك محيط بجميع الأفلاك وذلك لا يقوله مسلم.
والسادس: هو أن لفظ الفوقية في هذه الآية مسبوق بلفظ وملحوق بلفظ آخر.
أما أنها مسبوقة فلأنها مسبوقة بلفظ القاهر، والقاهر مشعر بكمال القدرة وتمام المكنة.
وأما أنها ملحوقة بلفظ فلأنها ملحوقة بقوله: {عِبَادِهِ} وهذا اللفظ مشعر بالمملوكية والمقدورية، فوجب حمل تلك الفوقية على فوقية القدرة لا على فوقية الجهة.
فإن قيل: ما ذكرتموه على الضد من قولكم إن قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} دل على كمال القدرة. فلو حملنا لفظ الفوق على فوقية القدرة لزم التكرار، فوجب حمله على فوقية المكان والجهة.
قلنا: ليس الأمر كما ذكرتم لأنه قد تكون الذات موصوفة بكونها قاهرة للبعض دون البعض وقوله: {فَوْقَ عِبَادِهِ} دل على أن ذلك القهر والقدرة عام في حق الكل.
والسابع: وهو أنه تعالى لما ذكر هذه الآية رداً على من يتخذ غير الله ولياً، والتقدير: كأنه قال إنه تعالى فوق كل عباده، ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غير الله ولياً. وهذه النتيجة إنما يحسن ترتيبها على تلك الفوقيات كان المراد من تلك الفوقية، الفوقية بالقدرة والقوة.
أما لو كان المراد منها الفوقية بالجهة فإن ذلك لا يفيد هذا المقصود لأنه لا يلزم من مجرد كونه حاصلاً في جهة فوق أن يكون التعويل عليه في كل الأمور مفيداً وأن يكون الرجوع إليه في كل المطالب لازماً.
أما إذا حملنا ذلك على فوقية القدرة حسن ترتيب هذه النتيجة عليه فظهر بمجموع ما ذكرنا أن المراد ما ذكرناه، لا ما ذكره أهل التشبيه والله أعلم.


{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أعلم أن الآية تدل على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله تعالى. ثم بيّن أن شهادة الله حاصلة إلا أن الآية لم تدل على أن تلك الشهادة حصلت في إثبات أي المطالب فنقول: يمكن أن يكون المراد حصول شهادة الله في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في ثبوت وحدانية الله تعالى.
أما الاحتمال الأول: فقد روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد الله غيرك رسولاً وما نرى أحداً يصدقك وقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة فأرنا من يشهد لك بالنبوة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من الله حتى يعترفوا بالنبوة، فإن أكبر الأشياء شهادة هو الله سبحانه وتعالى فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهيد لي بالنبوة لأنه أوحي إليّ هذا القرآن وهذا القرآن معجز، لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء وقد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزاً، كان إظهار الله إياه على وفق دعواي شهادة من الله على كوني صادقاً في دعواي. والحاصل: أنهم طلبوا شاهداً مقبول القول يشهد على نبوته فبين تعالى أن أكبر الأشياء شهادة هوالله، ثم بيّن أنه شهد له بالنبوة وهو المراد من قوله: {وأحِيَ إليَّ هذا القُرءان لأُنذِرَكُم بِهِ ومن بَلَغَ} فهذا تقرير واضح.
وأما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى.
فاعلم أن هذا الكلام يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة، وهي أنا نقول: المطالب على أقسام ثلاثة: منها ما يمتنع إثباته بالدلائل السمعية فإن كل ما يتوقف صحة السمع على صحته امتنع إثباته بالسمع، وإلا لزم الدور.
ومنها ما يمتنع إثباته بالعقل وهو كل شيء يصح وجوده ويصح عدمه عقلاً، فلا امتناع في أحد الطرفين أصلاً، فالقطع على أحد الطرفين بعينه لا يمكن إلا بالدليل السمعي، ومنها ما يمكن إثباته بالعقل والسمع معاً، وهو كل أمر عقلي لا يتوقف على العلم به، فلا جرم أمكن إثباته بالدلائل السمعية.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والاضداد والأنداد والأمثال والأشباه.
ثم قال: {وأحِيَ إليَّ هذا القُرءان لأُنذِرَكُم بِهِ ومن بَلَغَ} أي إن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، وأن القول بالشرك باطل مردود.
المسألة الثانية: نقل عن جهم أنه ينكر كونه تعالى شيئاً.
واعلم أنه لا ينازع في كونه تعالى ذاتاً موجوداً وحقيقة إلا أنه ينكر تسميته تعالى بكونه شيئاً، فيكون هذا خلافاً في مجرد العبارة.
واحتج الجمهور على تسمية الله تعالى بالشيء بهذه الآية وتقريره أنه قال أي الأشياء أكبر شهادة ثم ذكر في الجواب عن هذا السؤال قوله: {قُلِ الله} وهذا يوجب كونه تعالى شيئاً، كما أنه لو قال: أي الناس أصدق، فلو قيل: جبريل، كان هذا الجواب خطأ لأن جبريل ليس من الناس فكذا هاهنا.
فإن قيل: قوله: {قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} كلام تام مستقبل بنفسه لا تعلق له بما قبله لأن قوله: {الله} مبتدأ، وقوله: {شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} خبره، وهو جملة تامة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها.
قلنا الجواب في وجهين:
الأول: أن نقول قوله: {قُلْ أَىُّ شَيء أَكْبَرُ شهادة} لا شك أنه سؤال ولا بدّ له من جواب: إما مذكور، وإما محذوف.
فإن قلنا الجواب مذكور: كان الجواب هو قوله: {قل الله} وهاهنا يتم الكلام.
فأما قوله: {شهيد بيني وبينكم} فهاهنا يضمر مبتدأ، والتقدير، هو شهيد بيني وبينكم، وعند هذا يصح الاستدلال المذكور وأما إن قلنا: الجواب محذوف فنقول: هذا على خلاف الدليل، وأيضاً فبتقدير أن يكون الجواب محذوفاً، إلا أن ذلك المحذوف لابد وأن يكون أمراً يدل المذكور عليه ويكون لائقاً بذلك الموضع.
والجواب اللائق بقوله: {أَىُّ شَيء أَكْبَرُ شهادة} هو أن يقال: هو الله، ثم يقال بعده {الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ} وعلى هذا التقدير فيصح الاستدلال بهذه الآية أيضاً على أنه تعالى يسمى باسم الشيء فهذا تمام تقرير هذا الدليل.
وفي المسألة دليل رخر وهو قوله تعالى: {كُلُّ شَيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] والمراد بوجهه ذاته، فهذا يدل على أنه تعالى استثنى ذات نفسه من قوله: {كُلّ شَيء} والمستثنى يجب أن يكون داخلاً تحت المستثنى منه، فهذا يدل على أنه تعالى يسمى باسم الشيء.
واحتج جهم على فساد هذا الاسم بوجوه:
الأول: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} [الشورى: 11] والمراد ليس مثل مثله شيء وذات كل شيء مثل مثل نفسه فهذا تصريح بأن الله تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة، والتقدير: ليس مثله شيء لأن جعل كلمة من كلمات القرآن عبثاً باطلاً لا يليق بأهل الدين المصير إليه إلا عند الضرورة الشديدة.
والثاني: قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [الرعد: 16] ولو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقاً لنفسه وهو محال، لا يقال: هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول: إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها، فيجري وجودها مجرى عدمها، فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم ومن المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء وأشرفها، وإطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجاً عنه يكون محض كذب ولا يكون من باب التخصيص.
الثالث: التمسك بقوله: {والله الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف: 180] والاسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال نعت من نعوت الجلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ولا نعتاً من نعوت الجلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله تعالى بهذا الاسم لأن هذا الاسم لما لم يكن من الأسماء الحسنى والله تعالى أمر بأن يدعى بالأسماء الحسنى وجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا الاسم وكل من منع من دعاء الله بهذا الاسم قال: إن هذا اللفظ ليس اسماً من أسماء الله تعالى ألبتة.
الرابع: أن اسم الشيء يتناول المعدوم، فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى بيان الأول: قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً} [الكهف: 23] سمى الشيء الذي سيفعله غداً باسم الشيء في الحال والذي سيفعله غدا يكون معدوماً في الحال فدل ذلك على أن اسم الشيء يقع على المعدوم.
وإذا ثبت هذا فقولنا: إنه شيء لا يفيد امتياز ذاته عن سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة متميزة ولا يفيد كونه موجوداً فيكون هذا لفظاً لا يفيد فائدة في حق الله تعالى ألبتة، فكان عبثاً مطلقاً، فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى.
والجواب عن هذه الوجوه أن يقال: لما تعارضت الدلائل.
فنقول: لفظ الشيء أعم الألفاظ، ومتى صدق الخاص صدق العام، فمتى صدق فيه كونه ذاتاً وحقيقة وجب أن يصدق عليه كونه شيئاً وذلك هو المطلوب والله أعلم.
أما قوله: {وأحِيَ إليَّ هذا القُرءان لأُنذِرَكُم بِهِ ومن بَلَغَ} فالمراد أنه تعالى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به، وهو خطاب لأهل مكة، وقوله دومن بلغ ذ عطف على المخاطبين من أهل مكة أي لأنذركم به، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم، وقيل من الثقلين، وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن، فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التفسير فيحصل في الآية حذف، والتقدير: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به، ومن بلغه هذا القرآن إلا أن هذا العائد محذوف لدلالة الكلام عليه، كما يقال الذي رأيت زيد، والذي ضربت عمرو. وفي تفسير قوله: {وَمَن بَلَغَ} قول آخر، وهو أن يكون قوله: {وَمَن بَلَغَ} أي ومن احتلم وبلغ حد التكليف، وعند هذا لا يحتاج إلى إضمار العائد إلا أن الجمهور على القول الأول.
أما قوله: {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإني برئ مما تشركون} فنقول: فيه بحثان.
البحث الأول: قرأ ابن كثير: (أينكم) بهمزة وكسرة بعدها خفيفة مشبهة ياء ساكنة بلا مدة، وأبو عمرو وقالون عن نافع كذلك إلا أنه يمد والباقون بهمزتين بلا مد.
والبحث الثاني: أن هذا استفهام معناه الجحد والانكار.
قال لفراء: ولم يقل آخر لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كما قال: {وللهِ الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180] وقال: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} [طه: 51] ولم يقل الأول ولا الأولين وكل ذلك صواب.
ثم قال تعالى: {قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله واحد وَإِنَّنِى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ}
واعلم أن هذا الكلام دال على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه: أولها: قوله: {قُل لاَّ أَشْهَدُ} أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء.
وثانيها: قوله: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله واحد} وكلمة {إِنَّمَا} تفيد الحصر، ولفظ الواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء.
وثالثها: قوله: {إِنَّنِى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ} وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء فثبت دلالة هذه الآية على إجاب التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد.
قال العلماء: المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام. ونص الشافعي رحمه الله على استحباب ضم التبري إلى الشهادة لقوله: {وَإِنَّنِى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ} عقيب التصريح بالتوحيد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8